تاريخ من المجاز في أبحاث الدماغ.. بين ماضٍ مظلم، ومستقبلٍ محيِّر
في وصفِها للمُخ البَشري، تقول الشاعرة الأمريكية إميلي ديكنسون إنه أرحبُ من السماء، وأعمقُ من البحر، ومُفارِقٌ للعالَم الحِسِّي كأنه إله.
صورة ثلاثية الأبعاد بالرنين المغناطيسي للدماغ.
Tom Barrick, Chris Clark, SGHMS/SPL
|
ستيفن كاسبر
أستاذ التاريخ بجامعة كلاركسون، بوتسدام بولاية نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية.
Nature (2020)
doi:10.1038/d41586-020-00913-9
Published online: 28 Apr 2020
English article
English article
مصدر المقالة: Nature Arabic edition
العلماءُ الذين يتصدّون لهذه المهمة المَهيبة -مهمَّة توصيف الدِّماغ- فعادةً ما يستحضرون صنوفًا وألوانًا أخرى من المجاز؛ حيث يُشبِّهونه بالحكومة تارة، ويُصوِّرونه على هيئة خريطة، أو شبكة بِنًى تحتية واتصالات تارةً أخرى. وقد يجعلون منه آلة، أو إنسانًا آليًّا، أو حاسوبًا، أو شبكة إنترنت. تشبيهاتٌ كثيفة.. كان القاسم المشترك بينها أنها مُنطلِقة من الواقع، بيدَ أنَّ هذه الصور المجازية التي نعتمد عليها في فهْم طبيعة الدماغ كثيرًا ما تمرُّ علينا دون تدبُّر أو إمعانٍ، وربما يعود ذلك إلى ذيوعها، إذ ننسى أنها ليست سوى أدوات وصفيّة، ونتعامل معها كأنها خصائص طبيعية.
تمثِّل هذه المخاطر الخفية الأساس الذي يقوم عليه كتاب «فكرة الدماغ» The Idea of the Brain، لعالِم البيولوجيا والمؤرخ ماثيو كوب. وهو عمل تأريخيٌّ فكري طَموح، يتتبَّع فهْمنا المتغيّر للدماغ من العصور القديمة حتى عصرنا الحاضر، في الفكر الغربي بصفةٍ خاصة. يُسلِّط كوب الضوءَ على التساؤلات المتصاعدة حول جدوى الاستناد إلى المجاز في توجيه مسار أبحاث الأعصاب وتفسيرها. ويؤكد -في تواضع فريد- أن العِلْم أبعدُ ما يكون عن فهم الوظائف التي يؤديها الدماغ، والطريقة التي يؤدي بها هذه الوظائف، إذ لا يوجد هناك أي شيء يشبهه.
ويُبيِّن المؤلف كيف أن تصوراتنا عن الدماغ كانت دائمًا مُستقاة من الأطر الأخلاقية والفلسفية والتقنية التي يحددها مَن يصوغون السرديات السائدة في كل عصر. ففي القرن السابع عشر، ارتأى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت أن دماغ الحيوان يعمل من خلال آليات هيدروليكية، مُعتقِدًا -في الوقت ذاته- بوجود عقلٍ منفصل عن المادة، يتَّسم بطابع إلهي. أما أعلام الفكر الغربي اللاحقون، مثل جوليان أوفري دو لاميتري، الطبيب والفيلسوف الذي عاش في القرن الثامن عشر، فقد تبنَّوا تصورًا أكثر عِلمانية، مُشَبِّهِين الإنسان بالآلة، فيما عارَض الفيزيائي الإيطالي أليساندرو فولتا فكرة «كهربية الحيوان»، التي طرَحها أحدُ أقرانه، وهو لويجي جالفاني، واصفًا إياها بالقوة الحيوية التي تبُث الروح في المادة العضوية. ولعلَّ نفور فولتا من الطابع الميكانيكي هو ما دفعه إلى الخروج بهذا التصور.
وقد استُعيرت كذلك صورٌ مجازية جديدة من علم فراسة الدماغ في القرن التاسع عشر، وأيضًا من النظرية التطورية، ونظرية التثبيط في علم وظائف الأعضاء، القائلة إنّ الجهاز العصبي يمكنه كبح الأفعال والسلوكيات، ثم جاء عصر الاتصالات، وطالَعَنا بلغة جديدة لوصف الدماغ.
صِدَام التصورات
أدَّى اكتشاف الخلايا العصبية في أواخر القرن التاسع عشر إلى وقوع صِدَام بين عدة صور مُتعارضة؛ فقد صوّر الإصلاحيون هذه الخلايا على أنها مكونات منفصلة، يمكن تشبيهها بالأسلاك والإشارات في منشآت الاتصالات، التي كانت حديثة العهد آنذاك. وعلى الجهة الأخرى.. صوّر المحافظون الجهاز العصبي على أنه شبكة متَّصلة، على غرار الدورة الدموية، معتقدين أن ذلك يفسّر كيفية عمل الوجدان والعقل؛ فبالنسبة لهم، كانت الإشارات المتباينة تدل على تصورات غير تقليدية عن العقل، بل وربما عن الروح أيضًا.
حلَّ بعد ذلك عقد الأربعينيات من القرن الماضي، حين تمخَّضت عن هذه التصوُّرات الأساسية وفرةٌ من الإحالات: إلى النول المسحور، والأشباح التي تسكن الآلات، والدوائر المنطقية، وأدمغة الزواحف، والمعالجات المتوازية، وحمولة العقل. يشير كوب -إشارة عابرة- إلى حاجتنا إلى استحداث صور مجازية جديدة، تُمكِّننا من استيعاب التطورات البحثية، بدءًا من الذكاء الاصطناعي، ومرورًا بالأدمغة المُصغرة المستنبتة في المختبرات، حتى الغرسات الدماغية، لكنّ المؤلف لم يبادر إلى ابتكار أمثلة على مثل تلك الصور المُستحدثة.
إنّ السردية التي يقدمها كوب ليست بالطرح الجديد، فلطالما اعترف مؤرخو العلوم وفلاسفته بما للمجاز من قوة معرفية في مجال العلوم. أما بالنسبة إلى غير المتخصصين من القرَّاء، الذين يستهدفهم المؤلِّف بكتابه، فإن هذا الطرح يمثل إسهامًا مهمًّا.. فقليلٌ مَن قدَّم مثل هذه الرؤى السائغة، مدعومةً بأمثلة مختارة، وشروحٍ واضحة للعوامل المجتمعية التي تستند إليها. ولا يتوقف المؤلف عند هذا الحد، إذ يبرع كذلك في إظهار كيف أن للغة المجازية دورًا يتجاوز بكثير مجرد بلورة الموضوعات المعقدة صعبة الفهم، أو تبسيطها. فالمجاز يُغير الطريقة التي يتشكَّل بها التصوّر العلمي، عن طريق السماح بوجود تفسيرات جديدة، أو استلهام تجارب جديدة.
وعلى الرغم من هذا كلِّه، يذكِّرنا كوب أن المجاز يُخفي بقدر ما يُبدي. فعندما تَعرضُ الصور المجازية أفكارًا ما بصورة مُقنعة كلَّ الإقناع، فإنها عادة ما تتجاهل عناصر أساسية في هذه الأفكار. فتشبيه الدماغ بالحاسوب -على سبيل المثال- قد يقعُ من النفس موقعًا حسنًا، غير أنه يتجاهل أن الدماغ عضو من أعضاء الجسم، بل وعضو واعٍ في هذه الحالة. ويتبدَّى قصور ما بحوزتنا الآن من صورٍ مجازية وتعابير لغوية عندما يتعلق الأمر بتخيُّل موقف يتداخل فيه العقليّ، مع الحِسِّي، مع العقلي المتجسد تداخلًا وثيقًا.
وهكذا، لم يكن للمجاز -على قوته- سوى دورٍ محدود في تضييق فجوة الانقسامات التي تظهر أثناء سعي العلماء إلى فهم ماهية الدماغ. وبعد مُضيّ قرون من البحث العلمي، بما في ذلك التطورات الحديثة في استكشاف الوعي عبر تقنيات التصوير، مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، ما زلنا عاجزين عن الإجابة عن تساؤل شكسبير في مسرحية «تاجر البندقية»: "أخبرني، أين يُولد الحب، أفي القلب، أم في العقل؟".
إننا لا نملك التوقف عن استخدام المجاز، فالعلماء يعتمدون على اللغة المجازية في تنظيم الأفكار والآراء وتوصيلها. أما اقتراب علوم الأعصاب من التوصُّل إلى تصوُّر مقنع عن الدماغ على مدار العقود المقبلة، فربما يكون متوقفًا على الاستيعاب الكامل لدور الصور المجازية. ومن ثم، فإن أول ما يتعيَّن أن يلتفت الباحثون إليه، أن يفطنوا إلى أن اختيارات الكلمات، وإنْ بدا بعضُها بريئًا، كثيرًا ما تنطوي على إيحاءات ضارة؛ إذ غالبًا ما تحمل أفكارُنا عن الدماغ انحيازًا وصورًا من التحامل وعدم الإنصاف، سواءً أكانت مرتبطة بالعرق، أم الطبقة الاجتماعية، أم الجنس، أم الميول الجنسية، أم الفاعلية.
كان على كوب أن يُسهب أكثر عند تناوله لهذه الأمور؛ فلم تُذكر كلمة «عنصري» -على سبيل المثال- إلا بضع مرات على مدار الكتاب، بل لم تذكر سوى في الحواشي. ومع ذلك.. فإذا أعملنا شيئًا من التفكير، يتضح لنا أن الصور المجازية البريئة ظاهريًّا، مثل توصيف وظائف بعينها بأنها «أرقى» أو «أدنى»، أو وصف هياكل تشريحية محددة بأنها «بدائية»، مثل هذه التعبيرات لا تخلو من عنصرية. فعندما أُطلقت الأوصاف للمرة الأولى، عكست وجهة نظر بشعة، مفادها أن الأجهزة العصبية للرجال البيض المنتمين إلى الطبقة الاجتماعية العليا، تجعلهم أرقى تطوريًّا من أولئك الذين تعرَّضوا لقَمْعهم داخل البلاد وخارجها. وبالمثل، فممَّا يبعث على الانزعاج أن نعلم أن منطقة بروكا، المشهورة بمعالجة اللغة، قد أُطلق عليها هذا الاسم نسبةً إلى الطبيب الفرنسي بول بروكا، الذي اعتنق مبدأ التراتب الهرمي للشعوب. وفضلًا عن ذلك.. فأنْ نكون في عام 2020، ونجدُ علماء ما زالوا يتحدثون عن «دماغ الأنثى» –تلك الفكرة التي يستهجنها المؤلف استهجانًا مستحقًا– فإن ذلك يمثل دليلًا على أن عامل الجنس (المصطلح الذي لم يَرِد ذِكره إلا في مراجع الكتاب فقط) لا يزال عاملًا حاسمًا في تصورات الكثيرين فيما يتعلق ببِنْية الدماغ. كما لم يتطرق كوب إلى ما قد يعنيه الترويج للتنوع العصبي بالنسبة إلى اللغة المجازية. وأيًّا كانت الصور المجازية التي قد تظهر مستقبلًا، فإن تلك التي تقبل وجود الاختلافات على نحو يشمل الجميع ستكون هي الأكثر عمقًا وتبصرًا.
يضع كتاب «فكرة الدماغ» مأزقنا الحاليَّ في إطاره الصحيح، ويجمع بين دفَّتيه الكثير من القضايا التي تستوجب الاهتمام. ورغم أن الكتاب في جُملته جيد للغاية، فقد كان بوسعه تقديم المزيد، لا سيما في وقت يتقبّل فيه المجتمع العلمي جوانب القصور المتجسدة في منظور الرجل الأبيض، الغربي، الثري، الذي لا ينتمي إلى مجموعات المثليين، ولا يعاني من إعاقة، غير أنني آمل أن يحُضّ هذا الكتاب على تدبُّر أسباب استقرار بعض الصور المجازية، دون غيرها، ومن أين نشأت، وكيف استمرت، وكيف تُحمّلنا تلك الصور عبء مدلولاتٍ خفيّة، تنتمي إلى ثقافاتٍ غابرة.