الميلاتونين بين الحقائق والأوهام


يقول البروفيسور «رايتر» الأستاذ في جامعة تكساس الأمريكية بعد تجارب استمرت أربعين عاماً من البحث والدراسة:
إن الميلاتونين مادة من أكثر المواد فعالية في جسم الإنسان فهو يساعد الجسم في حربه ضد الجراثيم والفيروسات، ويحسن نوعية النوم، ويخفف من متاعب الأرق.


في وسط تلافيف الدماغ، وتجاويفه المعتمة، وفي نقطة ساخنة تزدحم بالأسئلة، والذكريات، وعلامات التعجب. هناك.. تتموضع غدة صغيرة بحجم حبة الذرة، تسمى «الغدة الصنوبرية». ترقد هذه الغدة بأمان، كما ترقد بيضة طير جارح في قمم الأشجار الباسقة. وإذا كانت الغدة الصنوبرية معروفة لدى العلماء والباحثين منذ وقت طويل، إلا أن اكتشاف العلماء عام 1957م أن هذه الغدة تفرز هرمون «الميلاتونين» يعد فتحاً علمياً جديداً، ولكنه ليس بذي فائدة لجهلهم بأهميته آنذاك. و جل ما عرفه الباحثون يومها أن هذا الهرمون موجود لدى كل الكائنات الحية من نبات، وحيوان، وإنسان، وأن الميلاتونين هو واحد لا يختلف، وهذا الهرمون الغريب يفرز وفق نظام دوري يتبع تعاقب الليل والنهار، إذ أنه يفرز ليلاً، ويتوقف إنتاجه في النهار. 

يقول البروفيسور «رايتر» الأستاذ في جامعة تكساس الأمريكية بعد تجارب استمرت أربعين عاماً من البحث والدراسة: إن الميلاتونين مادة من أكثر المواد فعالية في جسم الإنسان فهو يساعد الجسم في حربه ضد الجراثيم والفيروسات، ويحسن نوعية النوم، ويخفف من متاعب الأرق، وخصوصاً الذين يسافرون مسافات طويلة بالطائرات، وقد يساعد في الوقاية من السرطان وفي الحفاظ على حياة صحية مديدة. ووفقا للدراسة التي قام بها الدكتور رايتر فقد تبين أن إعطاء الميلاتونين بجرعات صغيرة لا تزيد عن (0.1) ملغ قد ساعد على إحداث نوم طبيعي عند من أجريت عليهم التجارب. وقد لاقت هذه النتائج صدى إيجابياً لدى الأميركيين، عجزت أمامه إدارة الأغذية والأدوية الأميركية للحد من انتشاره في الصيدليات. وتجرى العشرات من الأبحاث والدراسات للتعرف على المزيد من خصائصه ووظائفه، الساعة البيولوجية يتم افراز الميلاتونين بواسطة الغدة الصنوبرية، وهو موجود أيضاً في شبكية العين وبعض الأعضاء الأخرى، وتزداد مستوياته في الدم عندما يكون الإنسان في الظلام ويوجد بكميات أكبر عند الصغار، ويتناقص إنتاجه كلما تقدم الإنسان في العمر، إذ يبدأ معدله بالهبوط بعد سن البلوغ. 

تجدر الاشارة الى ان هذا الهرمون قد كتب عنه الكثير ، فعلى سبيل المثال أسرفت مجلة النيوزويك في تعاطفها مع الميلاتونين، إذ قدمته في أحد أعدادها على: «إنها الحبة المنومة المثيرة، الطبيعية، ورخيصة الثمن»، فإن العلماء يقولون: «إن هذا الهرمون قد يعيد ضبط ساعة الشيخوخة، ويعيد الشباب مرة أخرى!».. ولكن ليس كل ما قيل عن الميلاتونين يقع ضمن دائرة الإدمان، وإنما يساعد على ضبط وترتيب ساعاتنا البيولوجية على اليوم والفصل السنوي، وعندما يحصل تضليل لضابط الوقت الداخلي نتيجة رحلة طيران طويلة، أو عندما يغيّر الإنسان من دوامه النهاري إلى فترة ليلية فإن الميلاتونين يقوم بإعادة ترتيب وضبط الساعة الداخلية لأجسامنا. أما أرق الشيخوخة الذي يزعج كبار السن، فإن تفسيره بات واضحاً إذا تذكرنا بأن إنتاج الميلاتونين يبدأ معدله بالهبوط منذ سن البلوغ، ويصل إلى أضعف مستوياته كلما تقدم العمر، ويؤيد هذا الرأي دراسة نشرت في مجلة (لانست) تقول: ان الإذن ببيع الميلاتونين تحت الرقابة المحكمة قد يكون مفيداً، وفي دراسة حديثة لمجموعة من الباحثين تبيّن لهم أن كبار السن الذين يشكون من الأرق قد غشيهم النوم عندما أعطوا جرعة تعادل (2 ملغ) من الميلاتونين وذلك قبل أولئك الذين تناولوا دواء (بلاسيبو)وبوقت ليس بالقليل. تجارب ودراسات وفي أكبر تجربة محكمة حتى الآن، قام مجموعة من الباحثين بإعطاء عدة جرعات مختلفة من الميلاتونين أو حبوب دواء مرضى لعينة من (257) طبيباً نرويجياً ولمدة ستة أيام بعد عودتهم إلى أوسلو في مؤتمر عقد في نيويورك واستمر لمدة خمسة أيام.. وقد أعطيت لمجموعة جرعة من الميلاتونين مقدارها (5 ملجم) في وقت النوم، وأخذت مجموعة أخرى جرعة مقدارها (0.5 ملجم) في وقت النوم، وأعطيت ومجموعة ثالثة جرعة مقدارها (0.5 ملجم) في أول النهار وفي الأيام التالية كان وقت الجرعة يقدم ساعة واحدة عن موعد اليوم السابق.

 أظهرت كل المجموعات تحسناً تدريجياً بعد اليوم الأول، ولكن لم تكن هناك فروق معنوية بين المجموعات الثلاثة ومجموعة الدواء المرضي سواء عند النوم أو اليقظة أو أثناء النوم. قد تكون النتائج مشوبة بشيء من الشك نظراً لأن بعض الأطباء المشاركين في التجربة قد لا يزالون تحت تأثير اضطرابات النوم بسبب الرحلة الأولى إلى نيويورك، لذلك فقد تلازمهم الأعراض الأولى أثناء إجراء التجربة، وذكر الباحثون أن وقت أخذ الميلاتونين له تأثير أكبر إذا تم إعطاؤه في أوقات مختلفة.

تؤيد هذه الدراسة الفكرة القائلة: «إن البيئة المعتمدة على الحكايات والنوادر عادة تكون مضللة، والحاجة ماسة لتجارب عشوائية تكون مضبوطة بأدوية مرضية ، و ذلك قبل اتخاذ أي قرار عن مدى صلاحية وفوائد أي دواء.وفيما عدا هذه التجربة، أو ربما تجارب أخرى بنفس المستوى أجريت على بني البشر فإن المشكلة الكبرى تأتي من كون معظم المعلومات المتوفرة عن الميلاتونين بُنيت على دراسات أجريت على الحيوانات، ومن هنا يصعب الجزم بكون الهرمون آمناً وفعالاً إذا ما تم تداوله بين الآدميين. توهج الإعلان والإعلام ومع ذلك فإن أعداد الذين يتناولونه بازدياد مضطرد، يقودهم إليه المقالات المتوهجة في وسائل الإعلام، والطرق الخفية للإعلان عنه، وربما أيضاً تداوله بلا قيود من قبل إدارة الأغذية والأدوية في معظم دول العالم وتوافره في الصيدليات ومحلات الأغذية الطبيعية والأعشاب وبأسعار رخيصة، كما أنه لا يحتوي على سموم حسب ما يرد في النشرات المصاحبة للعقار. 

تساؤلات عديدة يثيرها هذا الهرمون، العديد من التساؤلات التي تحتاج لاجابات شافية عنها ومن بينها:
كيف يمكن لدواء رخيص الثمن، ويُباع في الصيدليات والسوبر ماركت دون وصفة طبية، أو إرشاد طبيب، أن يعمل عمل السحر في جسد الإنسان القلق المنهك، ويُصلح ما أفسد الدهر، ويكافح السرطان، ويعزز الجهاز المناعي، وله مفعول حبوب منع الحمل عن المرأة والرجل على السواء، ويمنع هشاشة العظام، ويمنح النوم الهادئ، وراحة البال لأولئك الذين يعانون اضطرابات النوم الناتجة عن السفر الطويل، وضغوط العصر.
هل يمكن لهذا الدواء المعجزة أن يكون وصفة شعبية بمتناول الجميع؟ 

لكنهم يقولون إن أحد أهم مسئوليات الطبيب الملحة هي الفصل بين الحقيقة والخيال، وهذه مهمة جد عسيرة في حال الميلاتونين كما يرى أحد الأطباء، ويضيف: «إن الادعاءات الشائعة عن فوائد واستخدامات الميلاتونين بعيدة المنال لدرجة أن الشكوك تسيطر على من يسمعها، ويتولد لديه ميل غريزي إلى صرفها وعدم تصديقها، ومع ذلك فإن قواعد السلوك المهني تحتم علينا أن نتبع طريقة علمية نزيهة في الحكم على الأشياء تعتمد على حقائق الحالة المعنية، وعندما أتأمل تلك الحقائق، فليس من السهل أن أصرف الادعاءات الدائرة حول الميلاتونين برمتها..»، فلابد اذن من وجود بعض الحقائق تستحق تتبعها. آثار جانبية وبعيداً عن الأسعار والتخمين

 على ضوء ما هو منتج من هرمون الميلاتونين جاء في نشرة علمية جامعية في أميركا أنه لم تثبت أية تأثيرات جانبية أو مضاعفات خطرة نتيجة تناول الهرمون. وأكد أحد الباحثين ما جاء في النشرة الجامعية «أنه لم يعلم حتى ذلك التاريخ عن أية أعراض جانبية خطيرة، ولكن هناك أعراضاً خفيفة..»، ويؤكد باحث آخر في إحدى الجامعات الأمريكية: «ليس هناك -حتى الآن- أية تقارير طبية بحدوث تسمم حاد نتيجة تناول الميلاتونين..» بقي أن نشير إلى أن الميلاتونين يحتاج إلى تحريض تقوم به بعض الفيتامينات وأنواع من الأغذية، بالإضافة إلى زيادة التعرض لضوء النهار، وفي المقابل فهناك مثبطات لإنتاج الميلاتونين قد تقلل إفرازه إلى حدود ضعيفة، ومنها (التدخين، والمنبهات وقائمة من الأدوية التي يصعب حصرها في هذا المقال، وعادات يومية خاطئة). و يمكننا القول: إن تطور العلوم والبحث العلمي لا يقف عند حد فأولئك العلماء يسعون للوصول الى الحقائق، وقد تصيب نتائجهم أو تخيب ، فإن صح ما يدعيه الباحثون عن الميلاتونين فسوف يكون نصراً يفيد منه الرجال بدرجة أكبر لأن النساء بطبيعتهن أطول عمراً من الرجال، وأقل قلقاً، وأكثر نوماً!!

المشاركات الشائعة