تأخر تقدير العالم لأهمية اكتشافات مندل بشكل كبير، حيث بقيت ملاحظاته حول النباتات الهجينة غير ذات أهمية واضحة خلال فترة حياته. ويمكن إرجاع هذا التأخير والإهمال إلى مجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والعلمية:
أولاً: العوامل الاجتماعية والعلمية (التي أدت إلى الإهمال الأولي):
1. عدم جاهزية المجتمع العلمي:
لم يكن المجتمع العلمي مستعدًا بعد لتقدير مساهمة مندل في الوراثة، والتي كانت مبنية على التحليل الرياضي للخصائص التي تنتقل من جيل إلى جيل.
2. غياب التحليل الرياضي في الوراثة:
لم يستعمل العلماء الآخرون الذين كانوا يعملون في مجال الوراثة الرياضيات لوصف نتائجهم. ولذلك، لم يدركوا أهمية نتائج مندل، ولم ينظروا إلى عمله بعين جديدة إلا بعد عقود عندما بدأ علماء آخرون بتطبيق التحليل الرياضي على تجارب مماثلة.
3. عدم موافقة "روح العصر":
لم تتطابق مكتشفات مندل ببساطة مع "روح العصر" (the spirit of the age) خلال فترة حياته. فقد أهمل عمله بسبب التحيز للأفكار المباينة و"القصيرة النظر" التي كانت سائدة حينها.
4. هيمنة النظريات السائدة:
في ذلك الوقت، كان الشرح الذي قدمته مبادئ نظرية داروين، التي كانت ذائعة الصيت، حول نشوء الأشكال الجديدة من النباتات يعتبر شرحا قاطعا تقريبا، مما أدى إلى إهمال عمل مندل. كما أن داروين وجميع العلماء المهتمين بالوراثة لم يكن لديهم أي تفسير حول كيفية انتقال الصفات من جيل إلى آخر عندما بدأ مندل عمله.
5. نظرة المجتمع لمندل:
كان العالم ينظر إلى مندل عند وفاته على أنه رجل دين قام ببعض الأبحاث العلمية "المثيرة للاهتمام لكنها بسيطة".
ثانياً: العوامل السياسية (التي أدت إلى الرفض والقمع في القرن العشرين):
استمر الجدل حول نتائج مندل ليصبح جدلاً سياسياً وعلمياً لعقود عديدة بعد وفاته، خاصة في الدول ذات الأنظمة الأيديولوجية.
1. الرفض الشيوعي والنظرية الأيديولوجية:
رفض الشيوعيون في الاتحاد السوفياتي مبادئ مندل، معتقدين أنهم يستطيعون توليد نوع جديد من الرجال والنساء يكون "حرا من قيود علم الوراثة المندلي التقليدي".
2. حملة تروفيم ليسينكو:
نال العالم المزيف تروفيم ليسينكو دعم الدكتاتور السوفياتي جوزيف ستالين. وادعى ليسينكو في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين أن الشيوعية قد دحضت مندل. كما صرح في عام 1948 أن علم الوراثة هو "علم بورجوازي زائف"، مشيراً إليه بعبارات قاسية على أنه "المندلية". وكان ليسينكو يرى أن الدولة السوفياتية ستنتج "إنساناً جديداً أفضل في غضون سنوات قليلة فقط"، وهو أمر كانت قوانين مندل تقول إنه مستحيل.
3. إعلان قوانين مندل غير قانونية:
أُعلن رسميا أن قوانين مندل "غير قانونية" في الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية التي كان يتحكم فيها الاتحاد السوفياتي.
4. قمع المؤسسات المندلية:
في ظل الحكم الشيوعي، أُغلق متحف مندل في الدير الذي كان يقطن فيه. وفي عام 1950، أغلقت الشرطة السرية التشيكوسلوفاكية الدير واعتقلت الرهبان، وحولت أبنيته إلى معامل وهدم البيت الزجاجي الذي كان يستعمله مندل لإجراء تجاربه.
5. عداء النازية:
كانت ألمانيا النازية في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين أيضا "معادية لموجودات مندل".
لقد أدت هذه العوامل السياسية، بالإضافة إلى الإهمال العلمي الأولي، إلى تشتيت وتقييد الاعتراف العالمي بإنجازات مندل حتى عقود بعد وفاته. وحين بدأ العالم يتساءل عن مندل بعد إعادة اكتشافه، كانت الكثير من أوراقه الخاصة قد أُحرقت بواسطة الرجل الذي خلفه في رئاسة الدير، لأنه اعتبر أنها "لا قيمة لها تذكر".
إن قصة مندل أشبه ببناء جسر عظيم، تم الانتهاء من تصميمه وهيكله في زمنه، لكن أدوات عصره لم تكن تسمح برؤية مدى أهميته إلا عندما تطورت أدوات الهندسة (الرياضيات والمنهجية العلمية) لتمكن العلماء من عبوره واكتشاف مدى ضرورته، قبل أن تحاول أيدي الأيديولوجيا هدمه لاحقًا.
تعليقات
إرسال تعليق